بطلان انتخابات_ في حكم يعد من أكثر الأحكام الانتخابية اتساعًا وتأثيرًا خلال السنوات الأخيرة، أبطلت المحكمة الإدارية العليا نتائج انتخابات مجلس النواب في نحو 30 دائرة من دوائر المرحلة الأولى.
وجاءت الأحكام محملة برسائل قانونية حاسمة، أبرزها توجيه انتقاد مباشر إلى الهيئة الوطنية للانتخابات بسبب امتناعها عن تقديم محاضر فرز صناديق اللجان الفرعية إلى المحكمة رغم تكليفها بذلك، وهو الامتناع الذي وصفته الحيثيات بأنه “نكول عن الوفاء بالالتزام القانوني”، وأنه حال دون تمكين المحكمة من إنزال صحيح حكم القانون على الوقائع.
التقرير التالي يرصد بصورة شاملة الخلفيات والأسباب القانونية والعملية التي دعت المحكمة إلى إبطال النتائج، ويستعرض تفاصيل الطعون، وكيف انتهت المحكمة إلى أن نكول الهيئة الوطنية للانتخابات يشكل قرينة في صالح الطاعنين بما يستوجب إلغاء عمليات الفرز وإعادة الانتخابات في عدد كبير من الدوائر.
بطلان انتخابات النواب وقاعدة الشفافية
منذ اللحظة الأولى لصدور الأحكام، بدا واضحًا أن المحكمة الإدارية العليا أرست قاعدة مفصلية مفادها أن العملية الانتخابية لا تستقيم من دون شفافية كاملة في مراحل الفرز وإعلان النتائج.
وقد أكد القضاة، في جميع حيثياتهم تقريبًا، أن محاضر الفرز هي الوثيقة الأساسية التي تسمح برقابة قضائية حقيقية على نتائج الصناديق، وأنه لا يملك الطاعنون الحصول عليها إلا من خلال الهيئة الوطنية للانتخابات، ما يجعل امتناع الهيئة عن تقديمها إخلالًا جوهريًا بمبدأ العلانية وضمانات النزاهة.
وركزت المحكمة على أن قرارات إعلان نتائج الانتخابات يجب أن تعكس بصورة صادقة إرادة الناخبين، وهي إرادة لا يمكن التحقق منها إلا بمطابقة ما ورد في محاضر الفرز بكل لجنة فرعية مع الحصر العددي الإجمالي الذي تعلنه اللجان العامة. ومع غياب تلك المحاضر، يصبح القرار الإداري بإعلان النتائج قرارًا فاقدًا لركن السبب، وغير قائم على أساس صحيح.
بطلان الانتخابات ومحاضر الفرز
لم تقتصر الطعون على مسألة المحاضر وحدها، بل تضمنت عشرات أوجه الاعتراض، من بينها حرمان المرشحين من الحصول على صور محاضر الفرز، وطرد المندوبين من اللجان الفرعية، ومنعهم من حضور عمليات الفرز، وتداول بطاقات التصويت خارج اللجان، وإغفال أصوات صحيحة، وتسويد بطاقات، وفرز أصوات في مقار غير مخصصة، ودمج لجان بما أدى إلى تكدس الناخبين وتعطيل العملية الانتخابية.
ومع ذلك، رأت المحكمة أن جوهر البطلان يتمثل في غياب المستند الرسمي الوحيد الكفيل بالكشف عن صحة أو خطأ تلك الادعاءات.
وفي الدوائر التي فاز أحد مرشحيها من الجولة الأولى، مثل الدائرة الأولى بالجيزة والدائرة الأولى بأسوان، اتخذت المحكمة مسارًا مختلفًا، إذ امتنعت عن النظر في صحة فوز المرشح الأول، وأحالت هذا الشق إلى محكمة النقض بوصفها الجهة القضائية المختصة دستوريًا بالفصل في صحة العضوية،لكنها في المقابل أبطلت القرارات المتعلقة بجولات الإعادة لعدم اكتمال مستندات الفرز.
توزعت الدوائر الملغاة على محافظات الجيزة والبحيرة والإسكندرية والمنيا وأسيوط وسوهاج والفيوم والوادي الجديد وأسوان والأقصر.
وفي جميعها جاءت الحيثيات متطابقة تقريبًا بشأن النكول عن تقديم محاضر الفرز. ففي الجيزة، مثلًا، قدمت الهيئة 13 محضرًا من أصل 74 في دائرة الجيزة والدقي والعجوزة، و5 محاضر فقط من أصل 50 في دائرة العمرانية والطالبية.
وفي البحيرة لم تتجاوز المحاضر المقدمة في بعض الدوائر محضرًا واحدًا من أصل 96.
وفي أسيوط، وصل عدد المحاضر الناقصة في دائرة القوصية ومنفلوط إلى 176 محضرًا لم يتم تقديمها.
وفي المنيا قدمت الهيئة 15 محضرًا فقط من أصل 107. وفي الأقصر لم تقدم أي محاضر على الإطلاق في إسنا.
هذا العجز الكبير في المستندات، بحسب المحكمة، يحرم القضاء من ممارسة رقابته القانونية، ويحول بينه وبين تحديد ما إذا كانت نتائج الفرز والتجميع قد جاءت مطابقة للواقع أم لا، وهو ما يجعل القرار الإداري بإعلان نتيجة الانتخابات قرارًا باطلًا بالضرورة.
محاضر الفرز ليست كشوف الحصر العددي
لم تكتف المحكمة بإلغاء جولة الإعادة في معظم الدوائر، بل وضعت معيارًا واضحًا للمستقبل، مؤداه أن محاضر الفرز لا يمكن بأي حال استبدالها بكشوف الحصر العددي (نموذج 12 ن)، لأن هذا النموذج لا يعدو كونه ملخصًا للنتيجة ولا يكشف تفاصيل الأصوات في كل صندوق.
وبالتالي، لا يمكن الركون إليه كبديل عن الوثيقة الأصلية التي تحدد أين وقع الخطأ أو أين جرى التلاعب أو أين حدث الإخلال.
كما شددت الحيثيات على أن القضاء الإداري لا يملك سلطة بحث صحة عضوية النواب الفائزين، لكنه يملك سلطة إلغاء القرارات السابقة على إعلان العضوية، ومنها القرارات التي تتعلق بإجراء جولات الإعادة.
وبناءً على هذا المبدأ، قضت المحكمة بتأييد فوز المرشحين الأوائل في بعض الدوائر مع إحالة الطعون الخاصة بهم إلى محكمة النقض، وإبطال ما عدا ذلك.
طعون ذات طبيعة فنية
أما الطعون ذات الطبيعة الفنية، فقد حوت تفاصيل تكشف جانبًا من المشكلات التي شابت العملية الانتخابية في بعض المناطق.
ففي البدرشين والعياط، أشار الطاعن إلى دمج لجان بطريقة لا تتناسب مع عدد الناخبين، ما أحدث تكدسًا أربك التصويت.
وفي كوم حمادة جاءت الاتهامات بوجود تصويت علني وجماعي في إحدى اللجان، ومنع وكلاء المرشحين من الاطلاع على المحاضر. وفي بندر المنيا وردت وقائع تمثلت في أخطاء جسيمة في كشوف الناخبين حالت دون إدلاء عدد من المواطنين بأصواتهم. وفي أسيوط وثّقت الطعون طرد المندوبين ومنعهم من حضور عمليات الفرز، إلى جانب رصد اختلافات بين الحضور الفعلي وإجمالي الأصوات المعلنة.
غير أن المحكمة، رغم تنوع هذه الاتهامات، لم تعتمد عليها وحدها كأساس للحكم، بل رأت أن غياب المحاضر جعل كل الشبهات التي أثارها الطاعنون قابلة للقبول لأنها لم تُدحض بالوثيقة الرسمية الوحيدة القادرة على توضيح حقيقة ما جرى.
عبء الإثبات لا يقع على الطاعن
من الناحية القانونية، تشير الأحكام إلى قاعدة راسخة مفادها أن عبء الإثبات لا يقع بالكامل على عاتق الطاعن عندما يكون المستند محل النزاع في حوزة الجهة الإدارية وحدها. فالهيئة الوطنية للانتخابات، بوصفها الجهة المنظمة، ملزمة بتقديم محاضر الفرز متى طلب القضاء ذلك.
وإذا امتنعت، تحل قرينة قانونية لصالح المرشح الطاعن، ويصبح الادعاء بوجود أخطاء أو مخالفات أقرب إلى الصحة ما لم يثبت العكس.
هذا المبدأ، الذي طبقته الإدارية العليا بدقة، كان كفيلًا بإسقاط عشرات القرارات وإعادة الانتخابات في دوائر واسعة.
وتكشف الأحكام عن رسالة مؤسسية واضحة: أن العملية الانتخابية في مصر، رغم ما تُبذل فيها من جهود، لا يمكن أن تتحصن من الرقابة القضائية إلا إذا التزمت بالشفافية الكاملة في كل مراحلها، ولا سيما فيما يتعلق بمحاضر الفرز.
فهذه المحاضر ليست أوراقًا إدارية عابرة، بل هي قلب العملية الديمقراطية، والوثيقة التي تؤسس لشرعية المجالس المنتخبة.
وختامًا، فإن أحكام الإدارية العليا بإبطال نتائج 30 دائرة لا تمثل فقط فصلًا قضائيًا في نزاع انتخابي محدود، بل تؤسس لقاعدة أشمل: أن إرادة الناخبين لا تُستنبط من بيانات إجمالية أو كشوف عددية، بل من محاضر الفرز الموقعة من ممثلي الدولة ومندوبي المرشحين في كل لجنة.
ومن دون هذه المحاضر، لا تكون النتيجة معبرة عن الصوت الحقيقي للناخب، ولا تكون العملية الانتخابية قد استوفت شروط سلامتها القانونية.
وبهذا المعنى، تصبح هذه الأحكام محطة مهمة في مسار ترسيخ الضمانات القضائية للانتخابات، وإشارة واضحة إلى أن القضاء المصري سيظل يقف عند مسافة واحدة من الجميع، لا يمنح الشرعية إلا لمن تثبت شرعية انتخابه بالوثائق الأصلية، لا بالأرقام المجملة.
