أثارت واقعة مرافعة الدكتور محمد حمودة، محامي سارة خليفة في قضية المخدرات الكبرى، فتح نقاش واسع داخل الأوساط القانونية حول حدود حق الدفاع، ومدى جواز الدفع بعدم حيادية تحقيقات النيابة العامة، وذلك عقب طلب ممثل النيابة من هيئة المحكمة إثبات ما ورد في المرافعة، تمهيدًا لاتخاذ إجراءات قانونية ضد المحامي.
الواقعة بدأت أثناء نظر القضية المتهم فيها 28 شخصًا بتهم تتعلق بتصنيع وجلب المواد المخدرة، حين أشار الدفاع، خلال مرافعته، إلى عدم حيادية التحقيقات، وهو ما اعتبرته النيابة تجاوزًا يستوجب المساءلة، الأمر الذي قوبل بانتقادات واسعة من محامين رأوا في هذا الإجراء مساسًا بحصانة الدفاع وتهديدًا غير مباشر لحرية المرافعة داخل قاعة المحكمة.
علي فايز: عدم حيادية التحقيقات يختلف عن وجود قصور فيها
في هذا السياق، أكد المحامي علي فايز، المتخصص في القضاء الجنائي، أن ما يصدر عن المحامي داخل قاعة المحكمة يظل في إطار الدفاع المشروع عن موكله، ولا يُؤاخذ عليه قانونًا، باعتبار أن المرافعة حق أصيل كفله الدستور والقانون، وليست سلوكًا شخصيًا يمكن مساءلته عليه.
وأضاف أن الإجراء القانوني السليم، حال وقوع تجاوز صريح، يتمثل في إثبات الواقعة بمحضر الجلسة، وقيام المحكمة بتحرير مذكرة بما حدث وإحالتها إلى النيابة العامة لاتخاذ شؤونها، دون اتخاذ إجراءات فورية قد تُفسر على أنها تهديد أو مساس بحصانة الدفاع.
وأشار إلى أن الدفع بعدم حيادية التحقيقات يختلف جوهريًا عن القول بوجود قصور فيها، موضحًا أن عدم الحيادية يفترض توافر تعمد وإرادة وانحياز واعٍ، وهو أمر لا يُفترض ابتداءً، بينما القصور في التحقيقات قد يحدث من أي عنصر بشري، سواء كان محققًا أو مأمور ضبط قضائي أو غيرهما.
ورجّح فايز أن يكون الدكتور محمد حمودة قد خانه التعبير في توصيفه القانوني، دون قصد الإساءة إلى النيابة العامة أو التشكيك المتعمد في نزاهتها، معتبرًا أن التعامل مع مثل هذه المواقف كان يجب أن يتم عبر تنبيه من المحكمة أو اعتراض قانوني من النيابة العامة داخل الجلسة، وليس عبر التلويح باتخاذ إجراءات قد تُفهم باعتبارها مساسًا بحق الدفاع.
مها أبو بكر: الجميع بشر ويخطئون ويصيبون
من جانبها، قالت المحامية مها أبو بكر، تعليقًا على الواقعة، إن النيابة العامة بصفتها ممثلة للمجتمع تجمع بين سلطتي التحقيق والاتهام، بينما يضطلع المحامي بدور الدفاع عن المتهم، وبالتالي فكل منهما خصم للآخر داخل منظومة التقاضي.
وأكدت أن من حق الدفاع تفنيد تحقيقات النيابة، والتعليق عليها، بل والدفع ببطلانها إذا كان ذلك لازمًا لإثبات براءة المتهم، على أن يكون الفصل في ذلك للمحكمة باعتبارها صاحبة الولاية في الترجيح والحسم.
وأضافت أن القانون والدستور كفلا للدفاع الحق في اتخاذ جميع الإجراءات التي تخدم إظهار الحقيقة، بما في ذلك إقامة دعوى المخاصمة ضد النيابة العامة إذا اقتضت مصلحة العدالة ذلك، مشددة على أن هذه الضمانات لا تُقر لمصلحة أشخاص أو جهات، وإنما لصالح العدالة ذاتها.
وأوضحت أبو بكر أن الحصانات المقررة لأطراف العملية القضائية ليست لإضفاء قدسية على القائمين عليها، وإنما لضمان حسن سير العدالة، مؤكدة أن الجميع بشر ويخطئون ويصيبون.
واستدعت في هذا السياق مشاهد من السينما القضائية القديمة، التي كانت تُظهر اشتباكًا ندّيًا بين النيابة والدفاع داخل قاعة المحكمة، تفصل فيه المحكمة بهدوء وحسم، باعتباره النموذج الأصيل للتقاضي العادل.
تدخل نقابي: لا يجوز فرض قيود على لغة الدفاع أو أدواته
وامتد التفاعل مع الواقعة إلى المستوى النقابي، حيث أعلن ربيع جمعة الملواني، المحامي بالنقض وعضو مجلس النقابة العامة للمحامين، تضامنه الكامل مع الدكتور محمد حمودة، معتبرًا أن ما حدث يثير مخاوف حقيقية بشأن حرية الدفاع.
وأكد الملواني أن الدفاع ركن أصيل من أركان العدالة الجنائية، وأنه كما لا حجر على النيابة العامة في مفرداتها أثناء عرض أمر الإحالة أو المرافعة، فلا يجوز فرض قيود على لغة الدفاع أو أدواته، طالما جاءت في إطار الواجب المهني.
وشدد عضو مجلس النقابة على أن نقد مرافعة النيابة أو أوامر الإحالة لا يُعد تعرضًا لأشخاص أعضاء النيابة، وإنما هو تفنيد قانوني للإجراءات، محذرًا من أن التضييق على هذا الدور يمثل إخلالًا بضمانات المحاكمة العادلة، وقد يتحول إلى قصور دفاعي يستوجب المساءلة إذا صمت المحامي عن عيوب جوهرية في الدعوى. كما رفض فكرة عصمة جهة التحقيق من الخطأ، مشيرًا إلى أن عددًا كبيرًا من أحكام البراءة صدر نتيجة أخطاء إجرائية أو قصور في أوامر الإحالة.
واستشهد الملواني بمبدأ مستقر في قضاء محكمة النقض الفرنسية مفاده أنه «لا دفاع بغير هجوم»، معتبرًا أن إلزام المحامي بتقييد ألفاظه خشية التأويل يفرغ المرافعة من مضمونها، ويقوض الدور الحقيقي للدفاع داخل قاعة المحكمة.
وتعكس هذه الواقعة حالة من القلق داخل الوسط القانوني بشأن اتساع الفجوة بين مقتضيات الدفاع ومتطلبات المساءلة، في وقت يؤكد فيه المحامون أن أي تضييق على حرية المرافعة لا ينعكس فقط على المحامي، بل يمتد أثره إلى جوهر العدالة الجنائية وثقة المتقاضين في منظومة القضاء.
