بطلان الدليل الرقمي_ في خطوة لافتة تعكس تحوّلًا مهمًا في تعامل القضاء المصري مع الأدلة الرقمية في قضايا الجرائم الإلكترونية، أصدرت محكمة جنايات شبين الكوم – الدائرة الأولى (جنايات مستأنف) – حكمًا قضى بإلغاء إدانة متهم في قضية ابتزاز إلكتروني عبر تطبيق “واتساب”، بعد أن تبين لها بطلان الدليل الرقمي الذي تأسس عليه الحكم الابتدائي.
القضية، المنظورة في الاستئناف رقم 1561 لسنة 2024، انتهت ببراءة المتهم ومحو التسجيلات محل الاتهام، لتكرّس المحكمة بموجب هذا الحكم اتجاهًا قضائيًا جديدًا يربط بين حجية الدليل التكنولوجي ومدى التزام جهات الضبط بالضوابط الفنية والإجرائية المنصوص عليها في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 ولائحته التنفيذية.
تعود وقائع الدعوى إلى اتهام النيابة العامة لأحد الأشخاص بارتكاب جرائم تهديد وابتزاز وإفشاء أسرار خاصة، استنادًا إلى رسائل وصور زُعِم أنه أرسلها إلى المجني عليه عبر “واتساب”، مطالبًا بمبالغ مالية مقابل عدم نشرها. وقد أصدرت محكمة أول درجة حكمًا بالسجن خمس سنوات على المتهم، معتمدة بصورة رئيسية على تقرير فحص فني تقني ورسائل رقمية نسبتها إلى رقم هاتف كان في وقت سابق مسجلًا باسم المتهم.
غير أن الاستئناف قلب موازين القضية. إذ دفع المتهم ببطلان الدليل الرقمي لعدم التزام جهات الضبط بالاشتراطات القانونية، ولوجود انفصال كامل بينه وبين رقم الهاتف محل الاتهام وقت وقوع الواقعة. وقد قدم للهيئة الاستئنافية إفادة رسمية من شركة الاتصالات تفيد بأن الخط المستخدم في إرسال رسائل الابتزاز كان قد خرج من حوزته قبل ثلاثة أشهر من تاريخ الواقعة، وأن الخدمة نُقلت إلى مستخدم آخر.
محكمة الاستئناف تعاملت مع هذه الدفوع بوصفها جوهرية، واستدعت خبير الأدلة الرقمية لمناقشته تفصيليًا. وجاء في حيثيات الحكم تركيز واضح على نقطتين: الأولى تتعلق بالقصور الإجرائي في جمع الدليل الرقمي وفحصه؛ والثانية تتعلق بغياب الصلة بين المتهم والوسيلة الرقمية المستخدمة في الجريمة. ورأت المحكمة أن تقرير الفحص الذي اعتمد عليه الحكم الابتدائي لم يلتزم بالضوابط المنصوص عليها في اللائحة التنفيذية للقانون، وعلى رأسها توثيق خطوات جمع الدليل، وإثبات أماكن الضبط والحفظ، والحفاظ على سلسلة الحيازة، واستخدام أدوات فنية تمنع العبث بالبيانات مثل كود الهاش الرقمي، إضافة إلى عدم استخراج نسخة طبق الأصل يمكن عرضها على الدفاع أو فحصها من خبير مستقل.
أما النقطة الثانية فبدت أكثر حسماً. فوفقًا لإفادة شركة الاتصالات، كان رقم الهاتف المستخدم في التهديد مسجلاً باسم شخص آخر عند حدوث الواقعة، ما يجعل نسبة الرسائل إلى المتهم قائمة على مجرد افتراض لا يستند إلى دليل قطعي. وأكدت المحكمة أن تجاهل هذه الإفادة في الحكم الأول يمثل إخلالًا بواجب المحكمة في بحث المستندات الجوهرية، باعتبارها تهدم إحدى حلقات الإثبات الأساسية.
الدليل الرقمي المقدم يرقى فقط إلى مرتبة الظن والاحتمال
وانتهت المحكمة إلى أن الدليل الرقمي المقدم يرقى فقط إلى مرتبة الظن والاحتمال، وهو ما لا ينهض به حكم بالإدانة، إذ لا بد من يقين جازم لا يدخل معه الشك. وأكدت الحيثيات أن المشرّع عامل الأدلة الرقمية معاملة الأدلة المادية من حيث قوة الحجية، لكنها تظل مشروطة باكتمال الضوابط وعدم مخالفتها. كما شددت المحكمة على أن احترام الإجراءات الفنية ليس ترفًا شكليًا، بل ضمانة أصيلة لتحقيق العدالة ومنع تلفيق الأدلة أو العبث بها.
الحكم يُمثل سابقة قضائية مهمة في قضايا تكنولوجيا المعلومات، لكونه يعيد تعريف حدود حجية الدليل الرقمي، ويلفت الأنظار إلى أوجه القصور التي قد تشوب إجراءات الضبط الرقمي إذا لم تُنفّذ وفقًا للمعايير القانونية. وهو في الوقت ذاته رسالة إلى جهات التحقيق بضرورة الالتزام الصارم بالتوثيق الفني، واستخدام الوسائل المعتمدة، وحماية سلسلة الحيازة، والتأكد من هوية مستخدم الوسائل الإلكترونية محل الاتهام.
كما يتضمّن الحكم بعدًا عمليًا بالغ الأهمية، إذ يوضح أن أي خلل في إجراءات جمع الأدلة الرقمية قد يؤدي في النهاية إلى انهيار البناء الإثباتي بأكمله، مهما كانت خطورة الاتهام، ومهما بدا الدليل لأول وهلة مقنعًا. فالتقنيات الرقمية قابلة للتغيير والتلاعب ما لم يتم تحصينها بإجراءات دقيقة وضمانات علمية واضحة.
من شأن هذا الحكم أن يرسم خطًا جديدًا ستسير عليه المحاكم عند نظر قضايا الابتزاز الإلكتروني والجرائم الرقمية، وربما يفتح الباب أمام موجة من الطعون في الأدلة الرقمية غير الموثقة. كما يضع عبئًا أكبر على الضباط الفنيين ووحدات الأدلة الإلكترونية لتطوير آليات جمع ومعالجة البيانات، بما يتفق مع المعايير القانونية التي أكدتها المحكمة.
