المياه المعدنية الملوثة_ تصاعد الجدل خلال الأيام الماضية حول سلامة المياه المعبأة المتداولة في السوق المصري، بعد انتشار مقطع مرئي لصنّاع محتوى أظهر ما وصفوه بنتائج تحاليل تشير إلى وجود تلوث خطير بزجاجات مياه معدنية، وهي ادعاءات أحدثت بلبلة واسعة، وأعادت طرح تساؤلات حول فعالية الرقابة الرسمية، وحق المجتمع في معرفة حقيقة ما يستهلكه يومياً.
وبينما أخلت جهات التحقيق سبيل البلوجر المعروف بـ«سلطانجي» وصديقه «الإكيلانس» بكفالة قدرها 50 ألف جنيه لكل منهما على ذمة التحقيقات المتعلقة بنشر فيديو «المياه الملوثة»، بعد أن كانت الأجهزة الأمنية قد ألقت القبض عليهما عقب تداول المقطع الذي شككا فيه بسلامة المياه المعبأة ومنتجات غذائية أخرى، وهو ما اعتبرته جهات رسمية إضراراً بالاقتصاد وأمناً غذائياً يستلزم التحقيق.
المياه الملوثة على أجندة البرلمان
الأزمة اكتسبت بعداً سياسياً وتشريعياً عقب تقدّم النائبة الدكتورة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب إحاطة موجّه إلى رئيس مجلس الوزراء ووزيري الصحة والتموين، مؤكدة أنّ المقطع المتداول أثار حالة من القلق لدى المواطنين، في ظل الإشارة إلى نتائج تحاليل تزعم وجود «فضلات حيوانية وبشرية» داخل بعض الزجاجات، الأمر الذي وصفته بأنه مسّ مباشر بصحة الناس وثقتهم في المنتجات الغذائية.
ورأت النائبة أن اللجوء إلى الإجراءات الأمنية لم يكن معالجة كافية للأزمة، معتبرة أن غياب توضيحات فنية وعلمية زاد من ارتباك الرأي العام، خصوصاً أن الأخطاء المحتملة في جمع العينات وتحليلها قد تكون أدت إلى نتائج مضللة لم تشرحها الجهات الرسمية بشكل كافٍ. وطالبت باتخاذ مبادرة حكومية فورية لإجراء فحوصات شاملة ومعتمدة، خاصة أن للشركة المنتجة – على حد قولها – سوابق في أسواق أخرى، ما يستدعي تدقيقاً أكبر قبل ترك الأزمة تتفاقم إعلامياً.
ودعت عبد الناصر إلى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة لفحص جميع دفعات الإنتاج، وتحليل العينات في معامل أكاديمية معتمدة، مع نشر النتائج كاملة للرأي العام، وتوضيح منهجيات الفحص لضمان الشفافية، مؤكدة أن التعتيم وغياب المعلومات الدقيقة يمنح الشائعات مساحة واسعة ويضعف ثقة المواطنين في أداء الأجهزة الرقابية.
كما شددت على ضرورة تطوير آليات رقابية حقيقية وغير روتينية لمتابعة جودة المياه المعبأة والمنتجات الغذائية، تشمل فحوصات دورية لخطوط الإنتاج وبرامج توعية للمستهلكين حول طرق جمع العينات العلمية، بما يحد من الارتباك الذي قد ينتج عن تحاليل فردية غير موثقة أو صادرة من جهات غير متخصصة.
تحليل المياه في نظر القانون
فيما قدّمت المحامية الحقوقية نهاد أبو القمصان قراءة قانونية معمقة لأزمة «المياه المعدنية الملوثة»، معتبرة أن طريقة التعامل مع الواقعة تجاوزت حدود الفعل نفسه لتكشف أوجه خلل أوسع تتعلق بالشفافية، واستقلالية الرقابة، وحدود ما يتيحه القانون للمواطنين ومؤسسات المجتمع المدني في مراقبة المنتجات المطروحة للبيع.
وقالت أبو القمصان إن الواقعة مثّلت اختباراً كبيراً لمدى قدرة المنظومة الرقابية في مصر على التعامل مع الأزمات التي تمس صحة الجمهور، مشيرة إلى أن القبض على شابين – أحدهما مهندس والآخر طبيب – لمجرد إجرائهما تحليلاً علمياً لمياه شرب متداولة، يثير تساؤلات حول حدود المشروعية والقيود المفروضة على الرقابة المجتمعية.
طبيعة الفعل وأساسه القانوني
وأوضحت أن التحليل الذي أجراه الشابان يستند إلى عملية علمية بحتة تستخدم أدوات قياس معملية، ولا يتضمن سباً أو قذفاً أو نشراً متعمداً لمعلومات كاذبة. وقالت إن الفعل يدخل ضمن المجال المشروع للنشاط المدني والبحثي الذي يهدف إلى حماية المستهلك. وأضافت أن القانون المصري لا يتضمن أي نص يحظر تحليل المنتجات المطروحة للبيع أو نشر نتائج التحليل، طالما لم يقترن ذلك بتزوير أو تضليل متعمد.
وبيّنت أن الأصل في القانون هو إباحة ما لم يرد نص بتجريمه، وبالتالي فإن توقيف الشابين يثير مسألة مدى تناسب الإجراء الأمني مع طبيعة الفعل، خاصة أنه يدخل في إطار البحث العلمي والمبادرات التطوعية التي تسعى إلى كشف العيوب أو المخاطر المحتملة في السلع المنتشرة في السوق.
غياب الدور الرقابي الفعّال
وانتقدت أبو القمصان ما وصفته بغياب جهاز سلامة الغذاء عن المشهد في أزمات سابقة أكثر خطورة، مستشهدة بحالات مثل رفض الفراولة المصرية في أوروبا بسبب ارتفاع نسب المبيدات، والسماح بدخولها السوق المحلي رغم التحذيرات، إضافة إلى أزمة البطيخ في الموسم الماضي، وغيرها من الحالات التي أثارت مخاوف صحية واسعة. وقالت إن ظهور الجهاز هذه المرة لم يكن إجابة على السؤال الأهم – سلامة المنتج – بل كان استفساراً إجرائياً حول “هل يحق لهم التحليل؟”، وهو ما وصفته بأنه انشغال بالشكل بدلاً من الجوهر.
وأكدت أن دور الجهات الرقابية لا ينبغي أن ينصب على مطاردة من يقومون بالتحليل، بل على توفير معلومات دقيقة وشفافة حول جودة الغذاء والمياه، ونشر نتائج الفحوصات الرسمية بشكل دوري يطمئن المواطنين ويحد من انتشار الشائعات.
مشروعية التوقيف ومدى تناسبه مع الفعل
ورأت أبو القمصان أن التوقيف في هذه الحالة يفتقر إلى الأساس القانوني المتين، لأن الواقعة لم تتضمن أياً من عناصر الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات المتعلقة بنشر الشائعات أو الادعاءات الكاذبة. وقالت إن مجرد نشر نتائج تحليل معملي – قد يصيب أو يخطئ – لا يُعد جريمة إلا إذا ثبت التلاعب أو التعمد في تضليل الرأي العام، وهو ما لم يظهر حتى الآن.
وأضافت أن استعمال الأدوات الأمنية في مواجهة مبادرات تفتقر إلى القصد الجنائي يهدر مبدأ التناسب ويضرب الثقة بين الجمهور والسلطات، لأن المواطن من حقه الطبيعي أن يتساءل عن مدى سلامة ما يُطرح أمامه في الأسواق.
الحق الدستوري في المعرفة والرقابة المجتمعية
وشدّدت أبو القمصان على أن الرقابة المستقلة ليست ترفاً، بل هي جزء أصيل من منظومة حماية الصحة العامة، خاصة في ظل احتكار الدولة للهيئات الرقابية وغياب نشر دوري لنتائج الفحوصات والمعايير المتبعة. وقالت إن المجتمع المدني يمثل ضلعاً مهماً في منظومة الرقابة على الغذاء والمياه، وأن التضييق على مثل هذه المبادرات يرسل رسالة مفادها أن الدولة لا ترحب بالرقابة المشتركة، رغم أن العالم يتجه إلى تعزيز الشفافية وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية.
وأشارت إلى أن غياب المعلومات الرسمية يفتح الباب واسعاً أمام الشائعات، ويضعف ثقة المواطنين في قدرة الدولة على حمايتهم، وهو ما يجعل حق المعرفة جزءاً جوهرياً من الأمن الصحي وليس مجرد مطلب إعلامي.
توصيات لإنهاء الأزمة وترسيخ الضوابط
وفي ختام مداخلتها، أكدت نهاد أبو القمصان أن تجاوز الأزمة يتطلب ثلاث خطوات رئيسية:
1. حفظ التحقيق ما لم يثبت تعمد التضليل أو تزوير النتائج.
2. إعلان نتائج رسمية وشفافة حول سلامة المياه المتداولة، ونشرها للرأي العام بصورة واضحة وشاملة.
3. وضع إطار قانوني منظم للرقابة المستقلة يسمح للمبادرات العلمية والمدنية بإجراء تحاليل وفق ضوابط مهنية، بدلاً من معاقبة القائمين عليها.
وقالت إن الأزمة ليست صراعاً بين الدولة وصنّاع محتوى، بل اختبار حقيقي لمدى إيمان الدولة بالشفافية، وقدرتها على إدارة الأزمات الصحية والغذائية بمنهج علمي يشارك فيه الجميع، مؤكدة أن ضمان سلامة ما يستهلكه المواطنون يبدأ من انفتاح الدولة على الرقابة وليس إغلاقها.
